أخبار وتقارير

صحيفة :المخدرات في عدن تأخذ طابعاً علنياً ورجال في الأمن السياسي والقومي يديرون استيرادها ودخولها وتوزيعها عبر البحر

يمنات
قالت صحيفة الشارع ان المخدرات في عدن توشك أن تأخذ طابعا علنيا.
وأضافت الصحيفة في تحقيق أعده الزميل حسام ردمان: هنا لم تعد تستدعي غضبا مجتمعيا أو سخطاً في الرأي العام. لقد طبّعت علاقتها مع المواطنين، وجالست الشباب بكثافة توائم حاجتهم الملحة للهروب من الواقع.
وأردفت: السرية، وهي خاصية “تعاطي وبيع” المخدرات في كل أصقاع الأرض، انقشعت في عدن وصار الأمر يمارس بجلاء وسلاسة دون رفض أو إنكار أو ملاحقة.
“يمنات” يعيد نشر التحقيقي الصحفي الذي نشرته صحيفة الشارع
تحقيق- حسام ردمان:
في عدن، توشك المخدرات أن تأخذ طابعا علنيا.
هنا لم تعد تستدعي غضبا مجتمعيا أو سخطاً في الرأي العام. لقد طبّعت علاقتها مع المواطنين، وجالست الشباب بكثافة توائم حاجتهم الملحة للهروب من الواقع.
السرية، وهي خاصية “تعاطي وبيع” المخدرات في كل أصقاع الأرض، انقشعت في عدن وصار الأمر يمارس بجلاء وسلاسة دون رفض أو إنكار أو ملاحقة.
مجتمع الإدمان في عدن من الداخل
في تصريح سابق له، أشار مدير إدارة الدفاع الاجتماعي في وزارة الشؤون الاجتماعية، إلى أن عدن تحتل المركز الثالث على مستوى اليمن من حيث عدد حالات الإدمان.
ولست أستغرب أي تنافس على الأول، فالإدمان والتخدير لم يعد داء نفسيا وجسمانيا بقدر ما صار ظاهرة سيسيولوجية تلمح أثرها في أغلب مظاهر الحياة، آخرها مثلا البرود الشعبي تجاه قرار الجرعة الأخيرة.
جوهر الإشكال كامن في اختلال طرفي المعادلة اليمنية: “المجتمع” الذي يبدو أنه بات متقبلاً لفكرة أن يصبح الشبان ضحايا للإدمان، و”الدولة” التي لم تمارس دورها الطبيعي المنوط بها، بل أسهمت سلبا في المتاجرة والترويج لهذه السموم. وثمة شهادات عدة وصلتنا تقر بتورط رجال دولة وأمن في تغذية هذه الدوامة.
رافقت أحد موزعي المخدرات ومررنا بكثير من الحواري والأزقة في كل مرة كان يجد زبونا ويعطيه كمية فيما يتجرع هو كمية
أما التعاطي الإعلامي مع هذه الظاهرة فلم يتجاوز مربع الوعظ والمثاليات، دون سبر أغوار المشكلة.
لذا فضلت صحيفة الشارع الدخول في عمق هذا العالم وفتح أبوابه والاطلاع على كل تفاصيله المخفية، والبحث في الأسباب التي أودت بمعظم الشباب للضياع في متاهاته. وقد واتانا الحظ كثيرا أثناء هذا التحقيق الأشبه بالمغامرة، وحتمت علينا الظروف حجب أسماء من استطلعنا إفاداتهم وتحركنا معهم.
السرية وهي خاصية (تعاطي وبيع) المخدرات في كل أصقاع الأرض انقشعت في عدن وصار الأمر يمارس بجلاء وسلاسة
وباء الحبوب
سيتطلب الحصول على نسخة من مجلة “المستقبل العربي”، مثلا، جهداً جهيدا وبحثا مطولا في معظم أكشاك مديريتي الشيخ عثمان وكريتر؛ بيد أن سلاسة الحصول على أشرطة الحبوب المخدر ستصدم أي عابر سبيل.
“حبوب المخدر أصبحت متوفرة أكثر من حبوب الأكل”، علق محمد فضل، مدير التربية في خور مكسر، وأضاف: “يكفي أن تمر حتى أحد أركان الحوافي، وتجلس مع مجموعة الشباب المخزن هناك، هربا من ضيق البيوت وحرّ مشاكلها، لتلقى حق الضيافة وكرم التخدير”.
في قلب التجمع السكاني، تطل مديرية الشيخ عثمان كأكثر المناطق شعبية وازدحاماً. وتعد منطقة القاهرة من أكثرها ازدحاما بالبشر والعشوائيات. تعرفت فيها على شابين: الأول متخصص في الحشيش، وهو من سأعيش برفقته مغامرة “مشوقة”، والثاني متخصص في تجرع وتوزيع الحبوب المخدرة، وقد جبت برفقته أزقة القاهرة العدنية حيث المخدرات والبلطجة جزء من الروتين اليومي للشباب.
الشاب “و. م” حكى لي باستفاضة عن كيفية ولوجه هذه الدوامة، وتحوله تدريجياً من مدمن يتعاطى إلى مدمن يتاجر. تعرفت إلى هذا الشاب منذ سنة تقريباً، لذا شق عليّ معرفته لأول وهلة بعد غياب؛ فكثير من ملامحه تغيرت: اشتدت حمرة عينيه، وازدادت دكانة السواد المتراكم تحتهما. كما نحل جسمه بشكل ملحوظ، وبدا وجهه “مبنجا” خاليا من التعابير لكثرة إفراطه بالسم الذي يتعاطاه.
مسؤول محلي قال إن عدن أصبحت تحتل المركز الثالث على مستوى اليمن من حيث عدد حالات الإدمان
في البداية، لم يب صديقي “المحبب” (والمحبب: لقب عدني لمدمني الحبوب المخدرة) تمنعا في سرد كل التفاصيل اللازمة لإشباع مخيلة أي صحفي، لكن عقيرته ارتفعت بمجرد أن ألمحت له بضرورة نشر ما قاله. “مالك يا حسام يعني لأننا اشتي اتجمل معك بتودف بي”، هكذا صرخ صديقي “المحبب” معترضاً. لكن، وبعد نقاش مرير، وافق مقابل عدم ذكر أسماء. والحقيقة أن الأسماء تظل نافلة في تحقيق صحفي يحكي تفاصيل ظاهرة.
أما خوفه من الأسماء فهو مبرر، بعد تجربة سجنه قبل سنوات بتهمة التعاطي. وقد خرج من السجن وهو متدين يقرأ القران ويصلي الفجر في جماعة. لكن تدينه الشكلاني سرعان ما ارتد على نفسه واستحال إدماناً أنكى وأشد.
ولتصبح مدمنا، لا بد أن تتوافر لك خاصيتي الفقر والفراغ، وستكون منحوسا إن أصبت بالاثنتين. وهذا تحديدا ما يجري مع صعاليك القاهرة والشيخ عثمان.
رجال في الأمن السياسي والقومي يديرون استيراد ودخول وتوزيع البضاعة ويؤمنوها بسيارات الأمن اليمني عند وصولها من البحر
وقد عبر صديقي المحبب عن ذلك ونحن نسير، حين سألته عن سبب انغماسه حتى أذنيه في هذا الباب، فأجاب: “يا أخي أصلا جوع ومافيش شغل”.
لذا، فأمثاله يعرجون بسرعة من مرحلة الإدمان إلى المتاجرة. وطيلة جولتي معه، مررنا بكثير من الحواري والأزقة، في كل مرة كان يجد زبونا ويعطيه كمية، فيما يتجرع هو كمية، وفي خصره حقيبة صغيرة خصصها للبضاعة التي يقتسمها بالمناصفة مع زبائنه.
بائع حشيش متجول: البضاعة تأتي من أفغانستان مغلفة وهي أنواع، منها الرطب ومنها القاسي
“كلهم مساكين الله، أصلا هذا الشريط حق المساكين.. أما (عيال ماما) يضبطوا دماغهم بالغالي”، قال صديقي بعد أن أبديت ملاحظتي بأن مريديه من ذات مستواه الاجتماعي والاقتصادي، ظهر ذلك من ملابسهم وطريقة كلامهم.
أخذني من الشيخ عثمان وانطلقنا معا في رحلة توزيع بدأت بدار سعد ثم القاهرة ثم المعلا وصولاً إلى قلب حواري كريتر قبل العودة إلى خور مكسر
اللافت أن آثار التخدير لم تنعكس على ملامحه التي كانت بالأغلب متشنجة، مرد ذلك إفراطه الكبير بالتعاطي. وحده لسانه من احتفظ بالبطء والتثاقل.
صديقي المحبب لم يلق الحد الأدنى من تعليمه، خرج قبل أن يكمل المرحلة الأساسية.
لذا قلت فرص عمله وكثرة سبل انحرافه.
أردت أن أحرره من عسف الحاضر؛ طلبت منه التخيل لو أنه موظف بمرتب جيد.
أحمد تحدث عن احتجاز صديقه في أفغانسان وعن شركائه الثلاثة وهم ضباط، أحدهم في الأمن السياسي واثنان في الأمن القوم
“ااااح يا حسام، ياريت والله، فاتنا عزيت نفسي من هذا القرف”، أجاب قبل أن يختم بنصيحة وصلت إلي صادقة: “انتبه تودف زينا”.
أطرقت متعجبا من نصيحته: كيف يدرك الخطأ ويمعن فيه؟! ترى هل ينتحر بمحض إرادته أم أنه ضحية كغيره؟ عموما، ليس وحده من يدرك الخطيئة ويتجه نحوها؛ فروع الصحة المسؤولة عن أرواح الناس هي الأخرى تتاجر بصحتهم.
كنا قد وصلنا إلى منطقة “عمر المختار” -المعروفة برقيها الذي لم يحل بينها وبين وباء المخدرات.
حين سألته عن مصادر تموينه، أشار إلى مستشفى قال إنه يورد الحبوب للراغبين فيها بانتظام.
ثم عدنا أدراجنا عشرة أمتار ليشير إلى الجهة المحاذية حيث يقع مستشفى آخر متخصص في الأمراض العقلية والنفسية، واستدرك قائلا: “لكن هذا حقه قوي مقدرش عليه يشتي له انتباه”.
مصدر طبي من داخل المستشفى أكد لي أن الإدارة المسؤولة لا تتاجر بالحبوب المخدرة، بل تتعاطاها أيضا.
“حق العجوز”، هكذا يشفرون التسمية ويتداولنها كإهداءات فيما بينهم.
قبل أن أنهي جولتي معه، سألته هل يحمّل أسرته مسؤولية ما هو فيه، لم يستطع إنكار دورها السلبي المساهم في صنع أي مدمن؛ بيد أنه سرعان ما أردف: “لكن أيش بيفعل أبي، هو مسكين الله لا يقدر يفتح لي سوبر ماركت ولا يدرسنا بمدارس وجامعات خاصة”.
وددت لو أطيل معه الجولة؛ لكن الفجر هدد بالرحيل وكان لزاما علينا الافتراق، خصوصا انّا في الثامن والعشرين من رمضان.
الحشيش: مأزق الدولة وملاذ البؤسا
لم تقتصر مهمة “و. م” على تبصيري بدهاليز التحبيب؛ بل تطوع ليعرفني بشاب تحتم الضرورة الأخلاقية أن أدعيه “أحمد”، ليجول بي في دنيا المرجوانا والحشيش. قصته لا تختلف كثيراً عن سابقه، تتداخل فيها التفاصيل والحبكات والظروف، حيث يصب الفقر والبؤس والفراغ لينتج بشراً مبنجين.
أحمد أيضا من عائلة فقيرة قوامها سبعة أفراد، لم يكمل تعليمه ولم يحظ بفرصة عمل. هو متزوج ويسكن ببيت أهله. ورغم ما يجنيه من مال؛ إلا أنه يفتقر لأي وعي تدبيري.
كان “أحمد” معتكر المزاج، لم يقبل أن أرافقه؛ لكنه عدل فجأة وطلب أن ألتقيه الغد عند المغرب. في التاسع والعشرين من رمضان التقينا في حوافي “الشيخ عثمان”، صافحته وشدني الكيس في يده. كيس دعاية ممتلئ بستة كيلوغرامات من الحشيش، كان يجول بها كالديك في أزحم بقاع اليمن.
تذللت إليه كي أحظى بفرصة التقاط صورة للبضاعة، لكنه رد بلكنة تهديد: “شكلك تشتي تقطع عيشك وعيشنا”.
“البضاعة تجي من أفغانستان مغلفة، وهي أنواع مش نوع واحد، في الرطب وفي القاسي وفي أذواق”، أجاب “أحمد” حين سألته عن مصدر البضاعة، لكنه اكتفى بالتجهم دون أن ينبس ببنت شفه عندما استفسرت عن رؤسائه.
كان واضحا في ذلك اليوم أني لن أجد راحة الكلام التي وجدتها مع صديقي المحبب، لقد رسم الكثير من الخطوط الحمراء للحيلولة بيني وبين الحقيقة. لكن الوقت كان كفيلا بترميم هذا النفور.
كانت تنتظره سيارة أحدهم ليوزع البضاعة من خلالها. أما سائقها ففتى جامعي غلبت عليه خفة الهواية وحب المغامرة على خبرة الاحتراف وعشق الإدمان. لذا، في وسط حديثنا، برر تولّعه بالحشيش قائلاً: “مش مشكلة أشرب طالما أنا اللي اسيطر عليها مش هي اللي تسيطر عليا”، وأكد أنه يحصد الامتياز في درجاته بالجامعة وليس للحشيش أثر سلبي عليه. بيد أن حجة السيطرة تلك كانت فضفاضة؛ فالكل يظن خيرا بمحبوبته التي تحترق ويراها أضعف منه حتى يحترق مثلها.
وفي بروتكول الحرق، جرت العادة أن يختار المحششون مكانا قصيا أثناء التدخين، هربا من ترصد الأعين وضماناً للراحة. وقع اختيارنا على “كرنيش المحافظ”، حيث تقع إحدى النقاط العسكرية المناوبة التفتيش. توترت بمجرد أن رأيت الأمن وأحسست بورطة تلوح، وساعتها لم أفكر بشيء سوى الاتصال برئيس التحرير ليخبرهم أني في مهمة صحفية.
“أحمد”، بدوره، قرأ ملامح سحنتي التي تبدلت: “يا ابني افهم!! قارب الخوف تأمن..”، حاول تطميني بجملته تلك ونزل من السيارة ومعه البضاعة، ومشى سيرا على الأقدام من جانب النقطة، فيما اجتزتها أنا والفتى الجامعي فوق السيارة وتحت التفتيش. ثم لاقينا “أحمد” على بعد ثلاثمئة متر.
ركب السيارة وواصلا السير أبعد مسافة، نصف كيلومتر تقريبا، لإعداد كمية مناسبة للشرب. وطوال لحظات انشغاله بإعداد “الصاروخ” كان يتوعد برفع الأسعار حتى الضعف خلال العيد. لكن الجميل أن منسوب التفاهم ارتفع فيما بيننا أيضا، وبدا أخيرا أكثر ارتياحا لي. لذا رجوته مجددا السماح بتصويره وهو يعد الحشيش فوعدني أن يفعل المرة القادمة.
أذهلتني برودة أعصاب “أحمد”؛ كيف امتلك الجرأة للتجول بكيس قد يزج به في السجن طوال حياته. لكنه شرح لي كيف تسير الأمور: يكفي أن تقتسم معهم البضاعة أو تقدم لهم رشوة كي تخرج و”على راسك بوسة” –على حد تعبيره. بل أكد أن المافيا التي تدير حبائل كل هذه الأمور تنبثق من رحم الدولة: رجال في الأمن السياسي والقومي يديرون استيراد ودخول وتوزيع البضاعة ويؤمنونها بسيارات الأمن اليمني عند وصولها من البحر. “أحمد” قال إنه رأى هذا المنظر بأم عينيه في الغيظة، التي استُقبلت فيها البضاعة التي نقلت بمرافقة الأمن إلى سيئون .
الحقيقة أن سجل الأمن مليئ بمواقف العار المخزية. أحد المواطنين، وهو صاحب سيارة أجرة استخدمها أحد الضباط ليوزع بها الحشيش الى زبائنه، تعرض لضرب شديد في أحد أقبية الأمن ومن قبل ذات الضابط.
المواطن “أ. ل” أخبرني أنه تعرض للتعذيب لمطالبته الضابط –الذي لم يحتمل “زنّه”- بإصلاح سيارته بعد أن أتلفها (الضابط) في حادث كبير أثناء توزيعه لشحنة مخدرات. ولولا أن لوالده وأخيه الأكبر معارف في الأمن لكان إلى اليوم في عداد المخفيين قسراً. قال لي الرجل إن وجهه تورم من الضرب، وقبل أن يخرج خُيّر بين حريته شريطة كتابة تنازل تام عن سيارته أو البقاء في ضيافتهم إلى الأبد.
سألته لماذا أقدم على هذا العمل وفي يده مصدر رزق جيد، فأجاب: “كان يجيب لي كل يوم 5000 وانا مخزن ومرتاااح بالركن، وآخر الليل يسلم لي السيارة.. بس بعد ما رفض يصلحه هددته اننا بفضحه فحصل اللي حصل”.
“أحمد” هو الآخر دفع مؤخراً رشوه بقيمة 50 آلاف ريال لتخليص أحد أصدقائه من قضية تعاطي كان سيسجن على إثرها ثلاثة أعوام على الأقل. حكى لي قصة صديقه الذي ظل طوال عام كامل رهينة في أفغانستان، لأن شركاءه لم يدفعوا قيمة البضاعة إلا متأخراً. أما شركاؤه فكانوا ثلاثة ضباط، أحدهم في الأمن السياسي واثنان في الأمن القومي.
هذا الشخص توفي بعد بضعة أشهر من عودته إلى اليمن. لم يكن يرحم نفسه –على حد تعبير أحمد؛ فقد مضى يتمرغ بكل أصناف المخدرات حتى الهروين بسبب ما تعرض له من صدمات في أفغانستان التي تصدر الإرهاب والحشيش.
ويعد البقاء كرهينة لدى المافيا الأفغانية وظيفة مغرية، يقول “احمد” إنه تلقى عرضا من أحد التجار الكبار بخمسة ملايين ريال مقابل تأدية هذه المهمة لكنه رفض. قال: “الموت الحقيقي هو انك تشوف الموت قدامك.. وانا مش مستعد”.
من يستمع إلى حديث أحمد يعرف أنه يدمن حبا في الحياة لا كرها لها، منظره يوحي بأنه شخص جيد، وهذا يساعده كثيرا في وظيفته. أسلوب حديثه من صميم الشعبوية العدنية، لكنه يوحي باحترامه لنفسه وللآخر. وبدا أن احترمه لي زاد مع الوقت، فقطع لي وعدا بلقاء آخر. وقبل أن يعيدني حيث التقينا، أوقف الجامعي السيارة أمام إحدى الصيدليات لشراء قطر للعين تسمى “روزلين”، قال إنها تشد ارتخاء الجفون وتضييع احمرار العين، وهما من أهم دلائل التحشيش، لكن أحمد أبدى رفضه لهذه الحيلة، قال إنها تبطل مفعول “الدماغ”.
التلصص على السعادة
لم يخلف الوعد كما ظننت؛ لقد هاتفني “أحمد” في رابع أيام العيد وقال: “يا أخي، انا ارتحت لك، بس مشكلتك الصحافة!! المهم اشتي أشوفك”، رددت عليه أني سأترك الصحافة وأقابله كصديق فقط؛ لكنه ضحك عليّ قبل أن يخبرني بأنه سيمر في الخامسة عصراً، لعله علم أني كنت أكذب.
أخذني من الشيخ عثمان وانطلقنا معا في رحلة توزيع بدأت بدار سعد ثم القاهرة ثم المعلا، وصولاً إلى قلب حواري كريتر، قبل العودة إلى خور مكسر وساحل العشاق، الخالي تماما من العشاق. كانت جولة مليئة بالتفاصيل والأشخاص الذين كانوا يشترون بضعف السعر. “يا أخي، أصلا البترول ارتفع”، كانت هذه حجة “أحمد” لتبرير جرعته التي، وبالرغم منها، يظل سعر الحشيش أرخص بكثير من مستلزمات الترفيه الأخرى. على سبيل المثال، تحتاج في عدن إلى 6 آلاف ريال كي تحظى بتخزينة جيدة مع صديق؛ لكن ألفين تكفي لشراء كمية حشيش تضمن لشخصين على الأقل أمسية جيدة.
هذه المرة، حظيت بوقت أوفر وحديث أطول، وسمح لي التقاط بعض الصور. كانت علاقتي بأحمد وصديقه الجامعي تتطور، وبدأت أمحص أكثر في دواخلهما. لم أجد مسخا مخيفا؛ بل شبابا يتلصصون على السعادة. عجبت لكرمهما معي، وحتى لذائقتهما الفنية. كانا يستمعان الى فيروز ووردة ونجاة الصغيرة، لكنهما يصغيان للأغاني الشعبية المصرية في لحظات التحشيش. هذه الأغاني التي تستند على اللوم المبالغ للزمن والدين والناس باعتبارهم الجناة والمسؤولين عن المشاكل. عندها عرفت الشعور الذي يخالجهما: “شعور البراءة والقدرة”؛ فالحشيش لا ينسيهم مشاكلهم، بل يعزز لديهم فكرة أنهم ليسوا السبب فيها، وأنهم قادرون على حلها بيسر. هذا الشعور وصلني أيضا. والغالب ان تأثير الحشيش قد أصابني؛ فقد كانت السيارة كلها مضمخة بدخانه.
شخصيا، وجدت إجابة شافية عن الطريقة التي يتحدث بها المحششون. كنت أتساءل دوما عن طريقة كلامهم، مأسوراً بالصور الذهنية للغرز المصرية؛ لكني وجدتهم مثلنا، يتحدثون تماما مثلنا ولكن بسعادة أكبر. سعادة تظهر حتى من قبل أن يتعاطى الحشيش، من اللحظة التي يحرقها ويخلطها بالتبغ، ثم يلفها ويضع في مؤخرتها عقب سيجارة، ويمررها بخفة على لسانه ويرفعها منتشياً ليشعلها بتأن ويشربها بتلذذ بطيء.
وفي خضم إعداده للفافته، لم يكن “أحمد” ليتوقف عن الكلام، كإشارة على الاحتراف. “شوف يا حسام، نحنا طلعة 2003 ما أخذناش الموضوع كإجرام وإدمان، بالعكس، طلعة 2011 اللي يا يحششوا ويحببوا ولا با يقتلوا أهلهم وأصحابهم”، هكذا قال أحمد مصنفا الإدمان إلى قاتل وغير قاتل. كلامه هذا تؤكده “غولالا روحاني”، مستشارة التنمية، التي عملت مؤخراً في مشاريع التوعية المجتمعية بشأن المخدرات في اليمن، بقولها إن “تعاطي المخدرات مشكلة كبيرة في اليمن، وأصبحت مشكلة أكبر منذ عام 2011، وخاصة المخدرات الاصطناعية، لأنها أكثر توافراً وأرخص سعراً”
تتوافد بغزارة حالات الإصابة بالطلق الناري على المستشفيات، مؤخرا، على خلفية خلافات تنشب بين شباب يكونون تحت تأثير المخدرات. هذا ما يؤكده “أصيل”، عامل التوثيق في مشفى النقيب التخصصي. وقبيل شهر في مديرية دار سعد، قتل أربعة شبان في خيمة أعراس صعقا بالكهرباء، بعد أن أطلق أحد المدعوين، المغيبين تحت تأثير الحبوب المخدرة، النار جوا مصيبا سلكا كهربائياً “ضغط عالي”. وهذا يؤكد أن انسحاب الدولة من حياة الناس هو ما أودى بهم إلى هذه الهاوية؛ حيث تنصلت من مهامها في توفير الخدمات وتذليل المعيشة وحفظ الأمن، وصارت خصما للمواطن.
لكن إدمان “أحمد” لا يقتل؛ بل يعيل؛ ففي منتهى جولتنا التقينا أخاه الصغير. ناوله 2000 ريال ونبهه أنها “حق العشاء”. وقبل أن نمضي، ركب معنا زبون مثقف، عرفني إليه أحمد بأني صحفي. ابتسم الضيف الجديد، وشرعنا بحديث عميق، بدءا من توجه الصحيفة التي أعمل فيها وكتابات العلائي، وصولا إلى الجابري ومصطلح اللا شعور السياسي. وفي منتصف الحديث، تلقف لفافته المحشوة ووضعها في جيبه.
كان لزاما على “أحمد” العودة إلى “ساحل أبين”. وقبل المثقف الركوب معنا، لكنا صادفنا نقطة عسكرية. هذه المرة، تزودت بالخبرة، لذا حاولت إتمام حديثي مع صديقي بشكل طبيعي. غير أنه تسمر واصفر وجهه، فتوترت معه أنا، لكني عدت لأطمئن بمجرد أن رأيت برودة “أحمد”. ولحسن حظي، مجددا، لم أضطر للاتصال برئيس التحرير.

زر الذهاب إلى الأعلى